بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له العزة والجبروت ، وبيده الملك والملكوت ، وله الأسماء الحسنى والنعوت ، العالم بالغيب فلا يغرب عنه ما تخفيه النجوى ولا يظهره السكوت ، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي شرع لنا في النوازل و الوتر القنوت ، وعلى آله و أصحابه صلاة وسلاما دائمين متلازمين ما اتصل بالإسلام جده المبخوت ، وانقطع بالكفر حبله المبتوت . وسلم تسليما كثيرا .
وبعد
فقد دفعني لبحث هذه المسألة المهمة، أنني تناقشت مع بعض إخواننا حول مشروعية القنوت في صلاة الفجر والتزامه بشكل دائم ، وخرجنا من المجلس ولم نرجح شيئا ، فقررت بحث المسألة وسرد أدلة المتخاصمين، وتخريج الأحاديث الواردة في هذا الشأن تخريجاً مختصراً وبيانَ درجةِ كلِّ حديث منها، وذكرَ مذاهبِ الفقهاء في هذه المسألة .
والله المستعان وعليه التكلان وبه ثقتي .
(بادئ ذي بدء)
اعلم ـ وفقك الله ـ أنه قد وقع الاتفاق على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ولم يبق الخلاف إلا في صلاة الصبح من المكتوبات وفي صلاة الوتر من غيرها . نيل الأوطار (3/397 ، ت طارق عوض الله) .
(فائدة)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/491) :
ذكر ابنُ العربِيِّ أَنَّ الْقُنُوتَ وَرَدَ لِعَشَرَةِ مَعَانٍ فنظمها شيخُنَا الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فيما أنشدنا لنفسه إِجازة غير مرّة :
وَلَفْظُ الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيَهُ تَجِدْه ... مَزِيدًا عَلَى عَشْرِ مَعَانٍ مَرْضِيَّهْ
دُعَاءُ خُشُوعٍ وَالْعِبَادَةُ طَاعَةٌ ... إِقَامَتُهَا إِقْـــــــرَار ُهُ بِالْعُبـــــــ ـــــودِيَّهْ
سكُوتُ صَلَاةٍ وَالْقِيَامُ وَطولُه .... كَذَاك دوَامُ الطَّاعَةِ الرَّابِحِ القُنِيهْ
· ولْنَعرِضْ أقوال الفقهاء في هذه المسألة :
1. مذهب مالك :
قال العلامة أبو العباس القرطبي في كتابه (المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم ) :
قد اختلف في حكمه في الفجر وفي الوتر وفي رمضان ، فقيل : لا قنوت في فجر ولا في غيره . قاله الكوفيون والليث ويحيى بن يحيى من المالكية . وأنكره الشعبي .
وقيل يقنت في الفجر دائما ، وفي سائر الصلوات إذا نزلت نازلة بالمسلمين قاله الشافعي والطبري .
وقال مالك وغيره : إنه يستحب في صلاة الفجر . وروى عن الشافعي ، وقال الحسن وابن سحنون : إنه سنة . وهو مقتضى رواية علي عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا .
وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة ، وعن الحسن في تركه سجود السهو .
إلى أن قال الإمام القرطبي :
والذي استقر عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت ما رواه الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتنت في الغداة حتى فارق الدنيا اهــ. المفهم (2/301)
قلت : والحديث الذي قال عنه الإمام أنه صحيح الإسناد سيأتي تخريجه وبيان نكارته ـ إن شاء الله ـ .
قال العلامة محمد بن علي السنوسي في كتابه (شفاء الصدر بأري المسائل العشر) :
والكلام في القنوت من ثلاثة أوجه في مشروعيته ومحله وسببه .
أما المشروعية ففيه خمسة أقوال ، فقيل إنه واجب وبه قال ابن زياد وقال : من تركه متعمدا بطلت صلاته .
وقيل غير مشروع أصلا ، وبه قال يحيى بن يحيى . وإلى هذين القولين أشار في التوضيح بقوله : وقال يحيى بن يحيى :"غير مشروع" ، ومسجده بقرطبة (لا يقنت فيه إلى حين أخذها الكفار أعادها الله للإسلام) وقال علي بن زياد : " من تركه متعمدا بطلت صلاته " .
وقيل هو جائز حكاه اللخمي قائلا : القياس أن فيه السهو ، وقيل هو جائز إن شاء فعله وإن شاء تركه ، وقيل إنه سنة ، قال ابن ناجي وهو مذهب المدونه ، قال فيها : وعن ابن مسعود القنوت في الفجر سنة ماضية .
وقيل إنه مندوب ، وبه قال الجمهور . قال عياض : " من فضائل الصلاة ومستحباتها القنوت في الصبح "
قال ابن ناجي :" المعروف من المذهب أنه فضيلة .
وقال في التوضيح : " المشهور أن القنوت فضيلة ، وقيل يسجد له فهو سنة . وقال يوسف بن عمر : " إذا نسي القنوت من يقول إنه قبل الركوع فإنه يقنت بعد الركوع فإذا رجع فسدت صلاته ؛ لأنه يرجع من فرض إلى مستحب .
وقال أشهب : من سجد له أفسد على نفسه .
قال ابن زياد :" إن لم يسجد له بطلت صلاته "
قال ابن ناجي :" قال بعض المتأخرين ، من أراد أن يخرج من الخلاف فليسجد بعد السلام ، وبه أفتى بعض من لقيناه " وهو توفيق حسن سديد . اهــ ( شفاء الصدر 77 ).
والمعتمد في مذهب مالك هو أ ن ( يقنت في الصبح خلافا لأبي حنيفة ، ويجوز قبل الركوع ـ وهو أفضل ـ ، وبعده .
ولا يقنت في الوتر خلافا للشافعي وابن حنبل وابن نافع في وتر النصف الآخر من رمضان .ولأبي حنيفة في وتر السنة .
والقنوت مستحب على المشهور وقيل سنة . ويقنت الإمام والمأموم منفردا وسرا ولا بأس برفع اليدين فيه وقيل : لا ) القوانين الفقهية لابن جزي 51 .
2.مذهب أبي حنيفة :
قال الإمام الطحاوي في ( شرح معاني الآثار ) (1/ 253) وقد ذكر جل أحاديث الباب ، وبسط القول في المسألة بما لا نظير له فأجاد وأفاد ، وأبان عن علمه الفياض ، ـ رحمه الله ورضي عنه :
فثبت بما ذكرنا أنه لا ينبغي القنوت في الفجر , في حال حرب ولا غيره , قياسا ونظرا على ما ذكرنا من ذلك وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالىاهـــ.
وقال السرخسي في (المبسوط ) (1/165) :
قال (ولا قنوت في شيء من الصلوات سوى الوتر عندنا) وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - يقنت في صلاة الفجر في الركعة الثانية بعد الركوع واستدل بحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الفجر إلى أن فارق الدنيا»
وقد صح قنوته فيها فمن قال إنه انتسخ فعليه إثباته بالدليل، وقد صح أن عليا - رضي الله تعالى عنه - في حروبه كان يقنت على من ناواه في صلاة الفجر.
(ولنا) حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في صلاة الفجر شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه» ، وهكذا عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر شهرا أو قال أربعين يوما يدعو على رعل وذكوان ويقول في قنوته اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف فلما نزل قوله تعالى {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} [آل عمران: 128] الآية ترك ذلك» وقال أبو عثمان النهدي - رضي الله تعالى عنه - صليت خلف أبي بكر سنين وخلف عمر كذلك فلم أر واحدا منهما يقنت في صلاة الفجر. ورووا القنوت ورووا تركه، كذلك ففعله المتأخر ينسخ فعله المتقدم وقد صح أنه كان يقنت في صلاة المغرب كما يقنت في صلاة الفجر ثم انتسخ أحدهما بالاتفاق فكذلك الآخر
اهــــ.
والمعتمد عند الحنفية أن القنوت في الفجر لا يشرع ، ولكنهم غلوا في الإنكار ، حتى أنكروا قنوت النوازل وهذا غير صحيح .
وسيتبين لنا المذهب الراجح في هذا ، وهو مذهب أهل الحديث كما ذكره ابن القيم في الزاد .
كتبه الأخ الفاضل أبوبكر عمر الذيب الزوي يتبع أن شاءالله .......