وقفات في حياة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
كتبه : أبو طارق
إحسان بن محمد بن عايش العتيـبي
إربد – بيت راس
17 شوال 1421 هـ
12 / 1 / 2001 م
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فبينما كنت أعدِّل كتاباً لي وأنظر فيه من جديد ، إذ اضطررتُ لتغيير دعائي كلما مرَّ ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز من " حفظه الله " إلى رحمه الله " !
وما أن انتهيتُ وأصبح الكتاب جاهزاً حتى فُجعنا بوفاة الإمام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، ففعلت الأمر نفسه في كتابي سالف الذكر .
وبينما كنتُ أعدِّل في الكتاب وقعت عيني أول أمس – أثناء التعديل – على اسم الشيخ ابن عثيمين وكان الدعاء بعد اسمه هو هو – أي : " حفظه الله " - فقلتُ في نفسي : ترى هل سيخرج الكتاب من غير تعديل الدعاء ؟.
ولم تمر إلا ساعات معدودة حتى جاءنا الخبر المؤلم المحزن بوفاة الإمام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
وإن القلب ليحزن ، وإن العين لتدمع ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولما كنتُ قد كتبتُ في حياة الشيخين ابن باز والألباني – وقد مات الثلاثة بمرض السرطان - أحببتُ أن أشارك من كتب في حياة أخيهما الثالث الشيخ ابن عثيمين، فكانت هذه الوقفات .
اسمه ومولده
اسمه : الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين الوهيبـي التميمي ، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ، وأستاذ بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم ، وإمام وخطيب الجامع الكبير بمدينة عنيزة .
وهو متزوج من امرأة واحدة ، وله من الأولاد الذكور : عبد الله ، وعبد الرحمن ، وإبراهيم ، وعبد العزيز ، وعبد الرحيم .
مولده : ولد في مدينة عنيزة في 27 رمضان عام 1347 هـ .
وعليه : فيكون الشيخ قد عمِّر ( 74 ) عاماً .
علمه
حفظ الشيخ رحمه الله كتاب الله في سن مبكرة ، وقبل أن يتجاوز الخامسة عشر من عمره كان يحفظ – بالإضافة إلى كتاب الله – " زاد المستقنع " و" ألفيَّة ابن مالك " – كما أخبر بذلك هو عن نفسه .
وقد جدَّ الشيخ ونشط في طلب العلم على قلة ذات اليد في ذلك الزمان ، وقد حدَّث عن نفسه فقال إنه كان لا يملك إلا " الروض المربع " يقرأ فيه ، في غرفة من طين تطل على " زريبة بقر " !
زهده وإنفاقه
زهده : والشيخ عرف عنه زهده في هذه الفانية ، ومن ذلك :
أ. أنك تجده على لباس واحد لا يتغير طوال الأسبوع ، تبدأ " غترته " بالتناقص من بياضها يوماً فيوم ، حتى ترجع إلى بياضها في يوم الجمعة .
ب. ولما أهديت له عمارة من الملك خالد بن عبد العزيز جعلها وقفاً على طلبة العلم ، وصار هو القيم عليها .
ت. ولم يخرج من بيته الطيني إلا من قريب بضغطٍ من أبنائه .
ث. وكانت تعطى له الأعطيات الكبيرة فيعلن على الملأ مباشرة أنها لطلبة العلم.
إنفاقه : وأما إنفاقه في سبيل الله من أموال غيره فكثير وسيأتي بعضٌ منه ، وما يهمنا هنا هو إنفاقه من ماله الخاص ، وقد حدَّث عن ذلك بعض تلامذته فقال :
أما ما أخفاه الشيخ عن الأمة فهو تبرعه السخي الخاص للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأذكر أنني في إحدى زياراتي له في منـزله عندما كنت أدْرس في الولايات المتحدة الأمريكية أنه أخذ بيدي إلى " مختصر " له فقال : يا عبد الله أنا وأنت هنا ولا يرانا إلا الله خُذ هذا المال ، وكان كبيراً ، وهو من مالي الخاص ! واشتر به مصاحف ووزعها على المحتاجين في السجون الأمريكية ، وأنت مسؤول عن الشراء وعن التوزيع ، وأسألك بالله ألا تبلِّغ بهذا أحداً !! .
ولم أبلِّغ بهذا أحداً منذ وقته إلى الآن ، أما وقت انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى فلا أرى بأسا أن أذكر أنه كان من المنفقين في السراء والضراء ، وكان لا يريد علم الناس بذلك ، رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأجزل له المثوبة والعطاء .
د. عبد الله الموسى
رئيس قسم الحاسب الآلي ونظم المعلومات ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
تعليمه
عُرف عن الشيخ أسلوبه النادر في التعليم ، فهو يوصل المعلومة بأسهل طريق إلى المتعلمين والسامعين.
ولا يكاد يغيب ذهن الواحد من الجالسين في درسه حتى يوقفه الشيخ ليجيب على سؤال أو ليعيد آخر كلام قاله .
وعرف عنه طريقة السؤال والجواب – لا السرد – وهي طريقة نافعة يترقب الطالب فيها كل لحظة أن يتوجه له سؤال .
وهي طريقة تحيي المجلس وتجعل الطالب دائم التحضير والمتابعة .
ويعطي الشيخ رحمه الله الدرس حقَّه ومستحقه من الشرح والبيان ولا ينتقل بالطالب إلى موضوع جديد حتى يكون قد فهم ما مضى .
ويعيد على الطلبة في الدرس التالي – بطريقة السؤال والجواب – ما أُخذ في الدرس الماضي ، وهكذا يتأهب الطالب لدرس اليوم ، ويعيد قراءة ما سلف من الدروس الماضية
وللشيخ رحمه الله شروح كثيرة لكتب عديدة – سواء من تأليفه أو من تأليف غيره – ومن فضل الله عليَّ أنني قد سمعت مادة علميَّة منها كثيرة - وقمت بشرح كل ما سمعته من الشيخ تقريباً - .
ومن هذه الدروس والشروح ما يتكرر أكثر من مرة ، منها :
أ - " شرح الأصول من علم الأصول " .
ب - " شرح زاد المستقنع " .
ت - " شرح أبواب من صحيح البخاري " .
ث - " شرح أبواب من صحيح مسلم " .
ج - " شرح ألفية ابن مالك " .
ح - " شرح الآجرومية " .
خ - " شرح العقيدة السفارينية " .
د - " شرح كتاب التوحيد " .
ذ - " شرح الواسطية " .
ر - " شرح التدمرية " .
ز - " شرح الحموية " .
س - " شرح البيقونية " .
ش - " شرح نخبة الفِكَر " .
ص - " شرح الأجزاء الأخيرة من القرآن " .
ض - " شرح بعض السور ، مثل البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والأحزاب ، وسبأ .. وغيرها بطريقة التفصيل واستنباط الفوائد والأحكام " .
ط - " شرح بلوغ المرام " .
وغير ذلك كثير ، يصعب حصرها وتعدادها الآن .
والشيخ – رحمه الله – كان حريصاً على تبليغ العلم لتلامذته وللناس جميعاً ، وخاصة في رمضان الذي يحرص فيه الشباب وعامة الناس على لقيا الشيخ والاستماع له .
ولم يفوِّت الشيخ عليهم رغبتهم تلك حتى مع اشتداد مرضه ، فلقد حرص رحمه الله على بقاء الدرس اليومي بعد " التراويح " ولكنه لم يستطع أن يبذل فيه جهده المعروف في كل عام ، فألقى ستة دروس في هذا العام ، وكانت مدة كل درس لا تتجاوز النصف ساعة ، ولنستمع إلى حادثة من حوادث تلك الأيام والتي يبين فيها عظيم همة الشيخ ومزيد حرصه على التعليم وإفادة الناس ، وهي حادثة تستحق أن يراجع بعدها كلُّ واحدٍ منَّا نفسه ، فما أن يصيبه مرض يسير إلا ويسارع إلى إلغاء كل نشاط له علمي أو دعوي
قال ابن الشيخ الأوسط إبراهيم : الوالد - رحمه الله - كان من الناس الزهاد في حياته ، حياته مليئة بالمآثر والمواقف ، ولعلي أذكر آخر موقف من المواقف العظيمة والتي لا نستطيع نحن ولا الكثير من الناس أن يأتوا بمثلها وهو في أواخر أيامه - رحمه الله - في اليوم التاسع والعشرين في رمضان حصل له بعض التعب في الصباح، فقرر الطبيب المرافق أن يتم نقله من " الحرم " إلى مستشفى " جدة " وبالفعل تم نقله إلى هناك وأدخل العناية المركزة ، وجلس هناك قرابة الأربع أو الخمس ساعات تقريباً وعندما جاء العصر تحسنت حالته شيئاً ما ، فأصرَّ أن يذهب إلى " مكة " رغم محاولاتنا إثناءه عن ذلك فقال : " لا تحرمونا هذا الأجر فهذه آخر ليلة في رمضان " !
وبالفعل ذهبنا إلى مكة ومعنا الأطباء المرافقون ، وأجلسناه في غرفة داخل الحرم ، وأول ما دخل الغرفة طلب أن يتوضأ ويصلي المغرب والعشاء ، وبعد أن انتهى من الصلاة طلب أن يُعدَّ للدرس !! ولما انتهى من الدرس قال للأطباء : " كيف تحرمونني من هذا الأجر العظيم " ؟!.
فهو إنسان غير عادي فهذا الموقف من يستطيع اليوم أن يقفه ، فالإنسان إذا أدخل المستشفى لأي سبب جلس بعدها ما جلس حتى عن مباشرة عمله فهو يخرج من غرفة العناية المركزة للدرس فهذا تفكيره وهذا شغله الشاغل والحمد لله .